المطرود
رواية
قصيرة
لصموئيل
بيكيت
لم يكن
السُلمَ عالياً. قمت بعد درجاته ألف مرة، عند الصعود وعند النزول، غير أن الرقم ما
عاد حاضراً،في ذاكرتي. لم أعرف أبداً إذا كان على المرء القول واحدة وهو يضع قدمه
على الدرجة الخارجية، أثنين مع
الخطوة اللاحقة وهي على الدرجة الأولى، وهكذا دواليك، أو أنه لا ينبغي عليه حساب الدرجة الخارجية.
وفي وصولي إلى أعلى الدرجات أجدني أتعثر في ذات الورطة. أعني في الإتجاه المُعاكس، من فوق إلى تحت، نفس الشيء، الكلمة ليست قوية. لم أكن أعرف من أين يجب عليَ البدء وأين ينبغي عليَ التوقف، لقول
الأشياء هي كماهي. توصلت في حسابي إذاً إلى ثلاثة أرقام مختلفة تماماً فيما بينها، دون أن أعرف أبداً أيها هو الصحيح. وعندما أقول بأن الرقم ما عاد حاضراً في الذاكرة، فهذا يعني بأن أي واحد من تلك الأرقام
الثلاثة ما عاد حاضراً في ذاكرتي. صحيح أنه عندما أعثر على واحد منها في ذاكرتي، الذي لا بد له من أن يكون فيها، لا أعثر ألاّ عليه هو، ومن دون أن أتمكن من استخلاص الاثنين الآخرين منه. وحتى لو تمكنت
من القبض على اثنين، لن أعرف الثالث. كلا، قد يتحتم عليَ العثور عليها ثلاثتها سوية في ذاكرتي، حتى أتمكن من التعرف عليها، ثلاثتها معاً. شيء قاتل، التذكر. حينئذ لا ينبغي على المرء التفكير بأشياء معينة، أو بالأحرى نعم، فإذا لم يفكر بها يخاطر بالعثور عليها، في ذاكرته، شيئاً فشيئاً. أي أن عليه التفكير بها في لحظة، في لحظة مناسبة، في كل يوم ولمرات عديدة في اليوم الواحد، إلى أن يغطيها الطين، بطبقة سميكة. هذا ما هو واجب.
إذ لا أهمية، في النهاية، لعدد الدرجات. ما كان يجب تذكره، هو أن السلم لم يكن عالياً، وهذا ما تذكرته.
فهو لم يكن سلماً عالياً حتى بالنسبة لطفل، مقارنة بغيره من السلالم التي يعرفها، لرؤيته لها في كل يوم، عند صعوده عليها ونزوله منها، وللعبه فوق درجاتها لعبة الكعاب، وغيرها من اللعب التي سينسى حتى اسمها.
فما بالك بالنسبة لرجل بالغ، شديد البلوغ.
لم يكن السقوط خطراً، إذاً. أثناء سقوطي سمعتُ إغلاق الباب، وذلك ما أراحني، حتى في أعماق هذا السقوط. ذلك لأنه يعني بأنهم لم يكونوا يلاحقونني حتى الشارع، بعصى، حتى يناولوني ضربات منها، أمام أنظار المارة. فلو كانت هذه هي نيتهم، لما أغلقوا الباب، بل لتركوه مفتوحاً، لكي يتمتع الأفراد الذين تجمعوا في الرواق من مشهد العقوبة، وحتى يستقوا منها عبرة. أكتفوا إذاً، هذه المرة، بقذفي إلى الشارع، وحسب. كان لدي الوقت، قبل الإستقرار في الساقية، للقيام بهذا الاستدلال.
في مثل تلك الظروف، لم يكن ثمة ما يرغمني على النهوض مباشرة. أستندت على الرصيف، يا لغرابة التذكر، ووضعت إذني في راحة يدي ومن ثم شرعت بتأمل موقفي، العادي بالرغم من ذلك. غير أن ضوضاء الباب المصفوق ثانية، الضعيفة، ولكن المؤكدة، قد أيقظتني من حلم يقظتي، حيث تَشَكلَ سلفاً مشهداً طبيعياً ساحراً، من حول أشجار الزعرور والورود البرية، وجعلني أرفع رأسي، ويدي ملقيتين بتسطح من فوق الرصيف وعرقوبي ساقي مشدودين. لكن لم يكن هناك سوى قبعتي، تحوم باتجاهي أثناء دورانها. اختطفتها ووضعتها ثانية فوق رأسي. كانوا خيرين تماماً، كما يشاء ربهم. إذ كان بمقدورهم الاحتفاظ بتلك القبعة، لكنها لا تعود لهم، بل لي أنا، لذا أرجعوها إليَّ.
كيف يمكن وصف هذه القبعة؟ ولماذا؟ عندما بلغ رأسي أبعاده التي لا أقول عنها النهائية، لكن لحدها الأكبر، قال لي والدي، تعال يا أبني، سنشتري لك قبعتك، وكأنها كانت موجودة منذ الأزل، في مكان محدد. لقد ذهب مباشرة نحو القبعة. أما أنا، فلم يكن لي في الأمر لا ناقة ولا جمل. غالب ما تساءلت مع نفسي إن لم يكن غرض أبي من ذلك جعلي أشعر بالمذلة، وإذا ما كان يغار مني أنا الذي كان شاباً وجميلاً، نضراً، فيما كان هو شائخاً سلفاً، منفوخاً ولونه يميل إلى اللون البنفسجي. منذ ذلك اليوم لم يعد من المسموح به لي الخروج ورأسي مكشوفاً، وشعري الجوزي اللون يتطاير في الهواء. كنت في بعض الأحيانً، وفي شارع معزول، أقلع تلك القبعة وأظل ماسكاً عليها بين يدي، وأنا أرتجفُ. كان عليَّ تنظيفها في كل يوم، صباحاً ومساءً. أما الصبية من عمري والذين كنت مرغماً، من حين إلى آخر على اللعب معهم، فكانوا يضحكون عليَّ. غير أني قلت في نفسي لا شأن للقبعة بذلك، فهم كانوا يتخذون منها ذريعة، كأي ذريعة أخرى، لأنهم لم يكونوا أرقاء. كنت دائم الاندهاش من عدم لياقة معاصري، أنا الذي كانت روحه تتلوى، لا لشيء سوى البحث عن نفسها. لكن ربما كان سبب هذا هو اللياقة، أي ذلك النوع من اللياقة الذي يسخر من شخص احدب أمام أنفه الضخم. حين توفى والدي، كان بمقدوري التحرر منها، إذ ما عاد هناك ما يتعارض مع هذا، بيد أني لم أفعل أي شيء. لكن كيف يمكن وصفها؟ في المرة القادمة، في مرة ثانية.
نهضت ثانية وتحركت. لا أعرف كم كان لي من العمر في حينها. ما حدث لي لا علاقة له بتاريخ معين من وجودي. فذلك لم يكن لا مهداً ولا لحداً لشيء. أو بالأحرى، كان ذلك يشبه كل مهد ولحد آخر، لكي أضيع فيه. لكني لا أعتقد أني أبالغ إذا ما قلت بأني كنت في مقتبل العمر، أي في ما يسمى امتلاك المرء لكامل قواه، كما أعتقد. نعم، إذا كان الأمر يتعلق بامتلاك القوة، فأنا كنت امتلكها. عبرت الشارع وانعطفت نحو الدار التي قذفوني منها، أنا الذي لا ينعطف أبدا، إذا ما تقدم إلى الأمام. كم كانت تلك البيوت جميلة! بزهور"الجورانيوم" الموضوعة في نوافذها. لأعوام طويلة، كنت أنحني على تلك الزهور الذكية، آه الجورانيوم، لكني تمكنت في الأخير من فعل كل ما أشتهيه معها. كنت أعبد حقاً باب تلك الدار، بدرجها الصغير. لكن كيف يمكن وصفه؟ كانت داراً ضخمة، مطلية باللون الأخضر، وفي الصيف تجري تغطيتها بالدغل الأخضر والأبيض، مع ثقب صغير يتسع لخروج مطرقة صغيرة من الحديد المسبوك وفتحة توازي فتحة علب الرسائل تغطيها طبقة من النحاس لحمايتها من الغبار، من الحشرات والعصافير. هذا كل شيء. كان الباب محاطاً بعمودين من نفس اللون، يحمل أحداهما الجرس. أما ستائره، فكانت تنم عن ذوق رفيع. فحتى الدخان الذي كان يرتفع من أحدى أنابيبه، كتلك الموجودة في المطبخ، كان يبدو وكأنه يتمدد ويتلاشى في الهواء بكآبة أقل من تلك التي ترتفع من المطابخ المجاورة، وأكثر زرقةً منها. نَظرتُ إلى نافذتي القائمة في الطابق الثالث والأخير، المفتوحة بطريقة متهورة. كانت عملية التنظيف على أشدها. بعد بضعة ساعات سيغلقون النافدة من جديد، سينزلون الستائر ثانية ويشرعون بتعقيم الغرفة بمطهر قوي. فأنا أعرفهم جيداً. كنت على أهبة للموت في تلك الدار. رأيتُ، ضمن رؤية ما، الباب ينفتح وقدمي تخرج منه.
رفعتُ نظري دون إحراج، لأني كنت أعرف بأنهم لم يكونوا يراقبوني وهم خلف الستائر، كما كان يمكنهم القيام بذلك، إذا ما كانوا يرغبون حقاً القيام به. لكني كنت أعرفهم. لقد دخلوا جميعهم في قواقعهم وتفرغ كل منهم لعمله.
ومع ذلك لم أكن عملتُ أي شيء.
لم أكن أعرف جيداً المدينة، مسقط ولادتي وخطواتي الأولى، في الحياة، ومن بعدها في كل الأماكن الأخرى التي ضيعت عليَّ دربي. كنت قلما أخرج! من حين إلى آخر، كنت أذهب إلى النافذة، أسحب الستائر وأنظر إلى الخارج. لكن سرعان ما كنت أعود إلى عمق الغرفة، هناك حيث كان مكان السرير. كنت أشعر بالضيق، في عمق ذلك الجو، وضائعاً على عتبة ما لا حصر له من الآفاق المشوشة. لكني كنتُ ما أزال أعرف كيف أتحرك، في تلك المرحلة، حين كان الأمر يلزمني على القيام بذلك. لكني رفعت عيني أولاً نحو السماء التي تقدم منها إلينا تلك المعونات الشهيرة، حيث لا تكون الطرق مدموغة بالعلامات، ولا يحد فيها شيء البصر، من أي جهة ينظر منها المرء، اللهم إلا حدود النظر نفسه. ذلك ما يدفعني لرفع نظري، حين تسوء الأمور كلها، وإن كان هذا رتيباً، بيد أنه لم يكن بمقدوري فعل شيئاُ آخر غيره، فيما يتعلق بتلك السماء المُستلقيةِ في مكانها، وإن كانت غائمةً، مُثقلة بالرصاص، أو حتى مغطاة بالمطر، بركامات وعمى المدينة، الريف، والأرض برمتها. في شبابي كنت أفكر بأنه من الأفضل العيش في سهل، لهذا ذهبتُ إلى أرض "لينبورغ" البائرة. كان السهل في رأسي فيما ذهبت أنا إلى الأرض البائرة. كانت هناك أراضي بائرة أخرى أقرب منها، لكن ثمة صوت قال لي أن أرض "لينبورغ" البائرة هي التي تليق بحضرتك، فأنا لا أخاطب نفسي إلا بحضرتكِ. والحال، لم ترق لي أرض "لينبورغ" البائرة، على الإطلاق. عدت خائباً، ومع ذلك مُسترخياً. نعم، فأنا لم أكن في يوم ما خائباً، لا أدري لماذا، فيما كنت غالباً مُخيباً، في المراحل الأولى، دون الشعور بذلك، في ذات الوقت، أو في اللحظة التي تليها، راحة لا يمكن الاعتراض عليها.
أخذت دربي. أية مشية. تصلبٌ في الأعضاء السفلية، وكأن الطبيعة لم تشأ منحي ركباً، أي تلك الفتحة الخارقة ما بين الأقدام في محور المشي. لكن جذعي كان رخواً، وكأن ذلك بفضل ميكانيك تعويضي، برخاوة حقيبة مكتظة بعشوائية بالأرقام وتتمايل بافتتان وفقاً لهزات الحوض غير المتوقعة. حاولت غالباً تصحيح تلك العيوب بأن أجعل الوسط أكثر تصلباً، الركب أكثر لياً وسحب الأقدام الواحدة قبل الأخرى، لأنه كان لدي منها خمس أو ست، بيد أن هذا كان ينتهي دائماً بنفس الطريقة التي بدأ بها، أعني بفقدان التوازن، الذي يعقبه السقوط. على المرء المشي دون التفكير بما يقوم به، كما يفعل هذا وهو ينعس، أما أنا، عندما كنت أمشي دون التفكير بما أقوم به، كنت أمشي بالطريقة التي وصفتها للتو، وحينما بدأت بمراقبة نفسي قمت ببضعة خطوات جيدة سقطت من بعدها. قررت إذاً ترك نفسي تمشي على حالها. يعود ذلك القرار، بجزء منه على الأقل، من وجهة نطري، لميل بعينه لم تتمكن الأعوام القابلة من التأثير عليه، الأعوام التي تسبق تشوش الطبع، أو تعديله، أتحدث بطبيعة الحال عن المرحلة الممتدة ما بين التعثر الأول بالكرسي والصف الثالث، في نهاية دروس الإنسانيات. كنت مصاباً أذاً بتلك العادة الكريهة، التبول في لبساني الداخلية، أو التغوط فيها، وذلك ما كان يحدث لي غالباً بصورة منتظمة في بداية النهار، عند الساعة العاشرة أو العاشرة والنصف، في مواصلة يومي وكأن شيئاً لم يحدث. كانت مجرد فكرة تغيّيري، أو اللجوء إلى أمي التي لم تكن تتمنى أكثر من مساعدتي، فكرة لا تطاق، لا أعرف لماذا، وهكذا كنت أجرجر ما بين فخذي الصغيرين، أو المحصورة في مؤخرتي، النتيجة الحارقة، المحمصة لفيضاناتي. من هنا مصدر تلك الحركات الحذرة، المُتصلبة الواسعة للغاية لساقي والتمايل اليائس لجذعي، المكرس دون شك لإعطاء الانطباع بأنه لم تكن لدي من هموم، وكأني امتلأ بالغبطة والفرح، وربما لتوضيح شروحي المتعلقة بتصلبي السفلي الذي وضعته على عاتق الروماتيزم الموروث. كان ألقي الصبياني، إذا ما كان لدي شيئاً منه، قد تم استنفاذه، وأصبحت صعباً، بصورة مبكرة نوعاً ما، أميل إلى التخفي والوقفة الأفقية. يا لبؤس حلول الشباب تلك، التي لا تفسر أي شيء. لا ينبغي على المرء إذاً الشعور بالضيق. مجرد ممحكات مجانية، لكن الضباب ما زال مخيماً.
كان الجو رائقاً. تقدمتُ على الطريق، وأنا أحرص قدر استطاعتي على البقاء بالقرب من الرصيف. فأوسع الأرصفة لم يكن بالوسع الكاف بالنسبة لي، عندما أتحرك، كذلك كنت أرتعب من مضايقتي للمجهولين. أوقفني شرطيُ قائلاً الشارع للسيارات، والرصيف للمشاة. قد يقول المرء أنه من العهد القديم. صعدتُ إذاً على الرصيف، مُعتذراً تقريباً، ومن ثم حافظت على وقوفي ضمن تدافع لا يمكن وصفه، خلال عشرين خطوة، إلى اللحظة التي كان عليَّ ألقاء نفسي فيها على الأرض، لكي لا أسحق طفلاً. كان يحمل معه عدة، ما زلتُ أتذكر ذلك، معلقة بها أجراس صغيرة، وكأنه مهرة، أو حصان حراثة، لمَ لا. كنت سأسحقه بفرح، فأنا أرتعب من الأطفال، لكني كنت أخشى من الانتقام. الجميع يحمل صفة الأبوةِ، وذلك ما يَحرمُ المرء من أي أمل. إذ ينبغي تخصيص أماكن، في شوارع المشاة، لهذه الكائنات القذرة الصغيرة، الدهنية، بمصاصاتهم، ودراجاتهم الصغيرة، الرضع، الجدات، الأجداد، القصر، البالونات، باختصار كل سعادتهم الوسخة تلك. سقطت إذاً، وجرفتُ معي سيدة شائخة مُغطاة بقطع اللؤلؤ وشرائط الدانتيلا والتي كان يمكن أن يكون وزنها ألف غرام تقريباً. لم تتأخر صرخاتها عن أثارة التجمع. كنت آمل بأن يكون فكها قد أنكسر، فالعجائز يكسرن فكهن بسهولة، ولكن ليست بالسهولة الكافية، بالكافية. استغليتُ الهرج لكي أفلت، متلفظاً ما لا يمكن تميّيزه من الكلمات المتهورة، وكأني كنت أنا الضحية، ولقد كنتُ كذلك، غير أنه لم يكن بإمكاني تقديم برهاناً يؤكد هذا. إذ لا يمكن أبداً اتهام الأطفال، الرضع، فمهما عملوا تتم تبرئتهم من البداية. يمكنني أنا اتهامهم بمتعة، لكن لا أقول بأني سأفعل ذلك، كلا، فأنا لست بالشخص العنيف، لكني قد أُشجع الآخرين وأدفع لهم أجرهم للقيام به. بيد أني ما كدت قد شرعت في سماع ضجة الركلات التي تلقيتها وزوغاني عنها وإذا بشرطي آخر يوقفني، شرطي يشبه تماماً الأول، لحد تساءلت مع نفسي إن لم يكن هو نفسه. ذكرني هذا الشرطي بأن الرصيف هو للجميع، وكأنه كان من الواضح لديه بأني لا أنتمي لهذا الصنف. قلت له، دون أن أفكر ولو للحظة بهرقليطس، هل تريد مني النزول في الساقية؟ لتنزل حيثما تشاء، قال، لكن لا تأخذ كل المكان. صوبتُ نظري نحو شفته العليا، الذي كان ارتفاعها يقارب ثلاثة سنتمترات على الأقل، ونفثت أنفاسي من فوقها. قمت بذلك، كما أعتقد، بطريقة طبيعية للغاية، وكأني أشبه ذلك الذي يطلق تأوهاً، تحت الضغط القاسي للأحداث. لكنه لم يكترث أبداً بهذا. فهو لا بد وإن يكون معتاداً على عمليات التشريح، أو الدفن. إذا كنت لا تهتم بالتحرك كالجميع، قال، فما عليك سوى البقاء في دارك. كان ذلك هو بالدقة شعوري أنا نفسي. فلو كان قد خصني بدار، ما أنزعجتُ. في تلك اللحظة، مرت عربة دفن، كما يحدث هذا أحياناً. كانت تلك مناسبةً لصعود ونزول القبعات يرافقها انبهار آلاف الأصابع. شخصياً، إذا كان قد تم اختزالي إلى حد رسم إشارة الصليب، سأقوم بذلك عن طيب خاطر، كما ينبغي. وضع اليد على الأنف،من فوق الصرة، على الحلمة اليسرى والحلمة اليمنى. أما هم، فكانوا يولدون لدى المرء، بتحريكم لأصابعهم بسرعة وعدم دقة، انطباعاً بأنهم كانوا يرسمون صليباً على شكل كرة، وبلا أقل تحفظ، واضعين حنكهم تحت ركبهم، وأذرعهم كيفما أتفق. توقف أكثرهم تحمساً وانتظر سماع الدندنات. كان الشرطي قد تجمد في مكانه، عيناه مغلقتين، ويده داخل جيب سترته. لمحتُ، عبر نوافذ عربة التشيّيع، بعض الأفراد وهم يتحادثون فيما بينهم بحماس، ربما كانوا يقصدون من ورائها التذكير ببعض من مشاهد حياة المرحوم، أو المرحومة. بدا لي سماع من يقول بأن سرج الجنازة لم يكن هو نفسه من الجانبين، غير أني لم أتمكن يوماً من معرفة أين يكمن الفارق. كانت الخيول تضرط وتلوث الأرض وكأنها ذاهبة إلى معرض. لم أر أي أحد يَخُرْ على ركبتيه.
لكن ذلك كان ينتهي عندنا بسرعة، فمها عجل المرء خطواته ستسبقه العربة التي تنقل المشيعين، وسوف يتفرق الناس من حوله، ويظل وحده. لذا توقفت، للمرة الثالثة، وأخذت من تلقاء نفسي عربة. إذ لا بد لتلك العربات، التي مرت أمامي والتي كان يتحدث في داخلها المشيعين بمثل ذلك التحمس، قد أثرت عليَّ. كانت واحدة من تلك العلب السوداء، التي تترنح من فوق نوابضها، نوافذها صغيرة ويتقرفص المرء في زاوية من زواياها، وذلك ما يماثل مشهد المساجين. شعرتً بشفقتي تلامس السقف. بعد قليل أحنَيتُ نفسي قليلاً إلى الأمام وغلقتُ النوافذ. ثم عدت إلى مكاني وظهري باتجاه السير. كدت على وشك النعاس وإذا بصوت يجعلني أقفز من مكاني، كان صوت الحوذي. فهو قد فتح الكوة الصغيرة، بعد يأسه دون شك من جعل صوته مسموعاً من قبلي عبر النافذة. لم أر منه سوى شاربيه. أين؟ قال. كان قد نزل من مقعده عمداً لكي يخبرني بذلك. فيما كنت أظن أنا بأني أصبحت بعيداً! فكرت، باحثاً في ذاكرتي عن اسم شارع، أو موقع أحد النصب. هل أن عربتك للبيع؟ قلت له. ثم أضفت بدون الحصان. ما الذي سأعمله بالحصان؟ لكن ما الذي أعمله بالعربة؟ هل أستطيع على الأقل التمدد فيها؟ ومنْ الذي سيجلب لي ما أكله؟ إلى حديقة الحيوانات، قلت. إذ من النادر أن لا تكون ثمة من حديقة حيوانات في عواصم المدن. بعد ذلك، قلت له لا تسرع. ضحك. فالإيحاء بحديقة الحيوانات كان دون شك قد سلاه. اللهم إلا إذا كان مشهد أن يكون بلا عربة هو ما فعل ذلك. أو ببساطة أنا، شخصي الذي كان حضوره في العربة هو ما جعله يتحول، إلى حد يمكن فيه أن يكون الحوذي قد تساءل مع نفسه، وهو يرى رأسي يحاذي السقف وقدمي باتجاه النافذة، إذا ما كنت بالفعل هي عربته، أو أنها عربة ما حقاً. وبسرعة ألقى نظرة على الحصان، لكي يطمأن نفسه ثانية. لكن هل يعرف المرء لماذا يضحك؟ على أي حال، كانت ضحكته مقتضبة، وهذا ما بدا وكأنه تبرئة لي. أغلق البوابة الصغيرة من جديد، وصعد إلى مقعده. بعد فترة قصيرة من ذلك، ترنح الحصان.
لكن نعم، كان ما يزال لدي، في ذلك الوقت، قليلاً من المال. المبلغ الصغير الذي تركه لي والدي، كهدية، غير مشروطة، بعد موته، أتساءل إذا لم يكونوا قد سرقوه مني. وبالرغم من ذلك، لم تتوقف حياتي، ويمكنني القول حتى بأنها استمرت بمثل ما كنتُ أريدها، إلى حد ما. العيب الكبير لهذه الحالة، التي يمكن تحديدها باعتبارها عدم القدرة على الشراء، هي أنها ترغم المرء على التحرك قليلاً. إذ من النادر، مثلاً، حينما لا تكون لديه حقاً فلوس، أن يحصل على ما يأكله، من حين إلى آخر، وهو قابع في جحره. لهذا فهو مرغم على الخروج منه والتحرك قليلاً، مرة واحدة في الأسبوع على الأقل. كذلك لا يبقى لديه بالضرورة أي عنوان، تلك هي الحالة. وكنتيجة لهذا سمعت، مع شيء من التأخر، بأنهم كانوا يبحثون عني، لأمر يخصني. لا أعرف عن أي طريق. فأنا لا أقرأ الجرائد ولا أتذكر أيضاً بأني كنت قد ثرثرتُ مع أحدهم، خلال تلك الأعوام، ما عدا مرتين أو ثلاثة ربما، من حول قضية تتعلق بالغذاء. يبدو أني لم يكن مهتماً بالأمر، بطريقة وأخرى، وإلا ما كنت قَدَمتُ نفسي للسيد "نيدر"، كم عجيب بقاء بعض الأسماء حاضرة في الذاكرة، هو الذي لم يستقبلني يوماً. كان قد تأكد من هويتي. وذلك ما أستغرق لحظة طويلة. أظهرت له الحروف الأولية من اسمي المنقوشة داخل قبعتي، غير أنها لم تثبت أي شيء، بل ضاعفت الاحتمالات. لتوقع، قال. كان يلعب بمسطرة اسطوانية يمكنها أن تذبح ثور. لتحسب، قال. كانت هناك شابة، قد تكون للبيع، حاضرة أثناء النقاش، وقد تكون شاهدة دون شك. دسست الرزمة في جيبي. أنت على خطأ، قال. كنت أتخيل بأنه كان عليه أن يطلب مني أن أحسب قبل أن يجعلني أوقع، كان ذلك سيكون صحيحاً أكثر. أين يمكنني الالتحاق بك، قال، عندما يلزم الأمر؟ تحت السلم، كنت أفكر بشيء ما. بعد ذلك بقليل، صعدت ثانية لأسأله من أين جاء ذلك المبلغ، مضيفاً بأنه يحق لي معرفة هذا. قال لي اسم امرأة، نسيتها. ربما كانت أجلستني على ركبتيها عندما كنت ما أزال أحمل الحضانات وقد أكون داعبتها. ذلك يكفي في بعض الأحيان. قلت بالدقة عندما كنت في الحضانات، لأنه بعد ذلك سيكون الوقت متأخراً، بالنسبة للمداعبات. كان بفضل ذلك المبلغ إذاً بقاء القليل من النقود معي. قليل جداً. فإذا ما تم تقسيمه على مراحل حياتي القادمة، فلن يظل منه شيئاً، اللهم إلا إذا كانت توقعاتي مبالغاً بشأنها. ضربت بحافة شفقتي ظهر الحوذي، إذا ما كانت حساباتي صحيحة. صَعَدتْ غيمة من الغبار من تلك الشفقة. أخرجت حجرة كانت موجودة في جيبي وصرت أضرب بها إلا أن توقفت العربة. لاحظت بأنه لم تصدر من تلك العربة حركة تباطأ، كتلك التي نلاحظها في العربات التي تريد التوقف. كلا، لقد توقفت في الحال. انتظرت. تَذَبذتْ العربة. لا بد وإن الحوذي قد سمع ذلك، من فوق مقعده. رأيت الحصان وكأني أراه بعيني المجردة. لم يكن قد اتخذ أية حركة تدل على ركوعه كما يحدث في حالات التوقف، ظل يقظاً، وأذناه مُنتصبتان. نظرتُ عبر النافذة، تحرك الحوذي من جديد. ضربتُ ثانية على الحاجز الفاصل بيننا، إلى أن توقفت العربة مرة أخرى. نزل الحوذي من مقعده وهو يرعد ويزبد. أخفضتُ الستارة لكي لا ينتبه ويفتح البوابة الصغيرة. بسرعة، بسرعة. كان أكثر احمراراً، أي بنفسجياً. كان له لون أو ريح السباق. قلت له بأني كنت قد أجرته طيلة النهار. رد عليَّ بأنه لديه عملية دفن في الساعة الثالثة. آه الأموات. قلت له ما عدت راغباً في الذهاب إلى حديقة الحيوانات. يجب أن لا نذهب إلى حديقة الحيوانات، قلت. أجاب بأنه غير معني أين علينا الذهاب، شريطة أن لا يكون ذلك بعيداً تماماً، بسبب بهيمته. ومع ذلك نسمع من يحدثنا عن الطريقة المتميزة التي يتحدث بها البدائيون. سألته إذا ما كان يعرف مطعماً. ثم أضفت، سنأكل سوية. فأنا أحب أن أكون مع أحد متآلف مع المكان، في تلك المناطق. كان هناك مائدة طويلة تحيطها أريكتين من ذات الطول بالضبط. من حول المائدة، حدثني عن حياته، عن هذه الحياة المرعبة التي هي حياته، بسبب من طبعه بشكل خاص. سألني إذا ما كنت أدرك ما معنى ذلك، أي أن يبقى المرء طيلة الوقت في الخارج. سمعت بأن هناك العديد من سائقي العربات الذين يظلون طيلة النهار في دفء عرباتهم وذلك ببقائهم واقفين، ينتظرون أن يأتي الزبون ليهزهم. هذا ما كان يمكن القيام به في السابق، أما اليوم فلا بد من مناهج أخرى، إذا كان المرء يود الحصول عليها، قبل ساعاته الأخيرة. وصفت له موقفي، ما فقدته وما أبحث عنه. لقد بذلنا جهدنا، كلانا، من أجل الفهم، والتفسير. فهمَ هو بأني فقدت غرفتي وبأنه كان لا بد لي من العثور على واحدة أخرى غيرها، لكن الباقي كله قد فلت من ذهنه. لقد وضع في رأسه فكرة لا يمكن اقتلاعها منه بأني كنت أبحث عن غرفة مفروشة. أخرج من جيبه جريدة مسائية من الأمس، أو ما قبله، ثم أخذ ينقب في إعلاناتها، بعدها راح يضعُ خطوطاً بقلم صغير من الرصاص تحت خمسة أو ستة منها، نفس قلم الرصاص الذي سيرتعش تحت أصابع الفائزين القادمين. لقد أشرَ بما لا يقبل الشك على نفس تلك العناوين التي كان سيؤشر عليها لو كان في مكاني، أو ربما على تلك التي تحيل على نفس المحلة، بسبب بهيمته. كنت سأربكه لو قلت له، فيما يتعلق بالغرف المفروشة، لن أقبل أن تحتوي على شيء آخر غير السرير، وبالتالي ينبغي سحب كل ما عداه، بما في ذلك الطاولة الليلية الصغيرة، قبل أن أتنازل وأضع قدمي فيها. في الساعة الثالثة أيقظنا الحصان وشرعنا بالانطلاق. أقترحَ عليَّ الحوذي الجلوس على المقعد بجانبه، لكني بعد لحظة كنت أحلم بداخل العربة ومن ثم أخذت مكاني هناك. زرنا جميع العناوين المشار عليها، الواحد بعد الآخر، وفقاً للمنهج كما آمل. كان ذلك اليوم الشتوي القصير يشارف على نهايته. يبدو لي أحياناً بأن الأيام الشتوية كانت هي الأيام الوحيدة التي عرفتها في حياتي، لاسيما في هذه اللحظة الفاتنة، التي تسبق الطمس الليلي. العنوانين التي كان قد أشار عليها، أو بالأحرى وضع من فوقها علامة الصليب، كما يفعل أبناء الشعب، شطبها بوضع خط عارض عليها، وذلك بالقدر الذي كان يتبين له من أنها لم تكن صالحةً. أظهر لي، فيما بعد، الجريدة وهو ينصحني بالاحتفاظ بها، لكي أكون متأكداً من عدم البحث من جديد في الأماكن التي بحثت عبثاً فيها من قبل. كنت أسمعه وهو يغني، وحده تماماً من فوق مقعده العالي، بالرغم من النوافذ المغلقة، صرير العربة وضج
الخطوة اللاحقة وهي على الدرجة الأولى، وهكذا دواليك، أو أنه لا ينبغي عليه حساب الدرجة الخارجية.
وفي وصولي إلى أعلى الدرجات أجدني أتعثر في ذات الورطة. أعني في الإتجاه المُعاكس، من فوق إلى تحت، نفس الشيء، الكلمة ليست قوية. لم أكن أعرف من أين يجب عليَ البدء وأين ينبغي عليَ التوقف، لقول
الأشياء هي كماهي. توصلت في حسابي إذاً إلى ثلاثة أرقام مختلفة تماماً فيما بينها، دون أن أعرف أبداً أيها هو الصحيح. وعندما أقول بأن الرقم ما عاد حاضراً في الذاكرة، فهذا يعني بأن أي واحد من تلك الأرقام
الثلاثة ما عاد حاضراً في ذاكرتي. صحيح أنه عندما أعثر على واحد منها في ذاكرتي، الذي لا بد له من أن يكون فيها، لا أعثر ألاّ عليه هو، ومن دون أن أتمكن من استخلاص الاثنين الآخرين منه. وحتى لو تمكنت
من القبض على اثنين، لن أعرف الثالث. كلا، قد يتحتم عليَ العثور عليها ثلاثتها سوية في ذاكرتي، حتى أتمكن من التعرف عليها، ثلاثتها معاً. شيء قاتل، التذكر. حينئذ لا ينبغي على المرء التفكير بأشياء معينة، أو بالأحرى نعم، فإذا لم يفكر بها يخاطر بالعثور عليها، في ذاكرته، شيئاً فشيئاً. أي أن عليه التفكير بها في لحظة، في لحظة مناسبة، في كل يوم ولمرات عديدة في اليوم الواحد، إلى أن يغطيها الطين، بطبقة سميكة. هذا ما هو واجب.
إذ لا أهمية، في النهاية، لعدد الدرجات. ما كان يجب تذكره، هو أن السلم لم يكن عالياً، وهذا ما تذكرته.
فهو لم يكن سلماً عالياً حتى بالنسبة لطفل، مقارنة بغيره من السلالم التي يعرفها، لرؤيته لها في كل يوم، عند صعوده عليها ونزوله منها، وللعبه فوق درجاتها لعبة الكعاب، وغيرها من اللعب التي سينسى حتى اسمها.
فما بالك بالنسبة لرجل بالغ، شديد البلوغ.
لم يكن السقوط خطراً، إذاً. أثناء سقوطي سمعتُ إغلاق الباب، وذلك ما أراحني، حتى في أعماق هذا السقوط. ذلك لأنه يعني بأنهم لم يكونوا يلاحقونني حتى الشارع، بعصى، حتى يناولوني ضربات منها، أمام أنظار المارة. فلو كانت هذه هي نيتهم، لما أغلقوا الباب، بل لتركوه مفتوحاً، لكي يتمتع الأفراد الذين تجمعوا في الرواق من مشهد العقوبة، وحتى يستقوا منها عبرة. أكتفوا إذاً، هذه المرة، بقذفي إلى الشارع، وحسب. كان لدي الوقت، قبل الإستقرار في الساقية، للقيام بهذا الاستدلال.
في مثل تلك الظروف، لم يكن ثمة ما يرغمني على النهوض مباشرة. أستندت على الرصيف، يا لغرابة التذكر، ووضعت إذني في راحة يدي ومن ثم شرعت بتأمل موقفي، العادي بالرغم من ذلك. غير أن ضوضاء الباب المصفوق ثانية، الضعيفة، ولكن المؤكدة، قد أيقظتني من حلم يقظتي، حيث تَشَكلَ سلفاً مشهداً طبيعياً ساحراً، من حول أشجار الزعرور والورود البرية، وجعلني أرفع رأسي، ويدي ملقيتين بتسطح من فوق الرصيف وعرقوبي ساقي مشدودين. لكن لم يكن هناك سوى قبعتي، تحوم باتجاهي أثناء دورانها. اختطفتها ووضعتها ثانية فوق رأسي. كانوا خيرين تماماً، كما يشاء ربهم. إذ كان بمقدورهم الاحتفاظ بتلك القبعة، لكنها لا تعود لهم، بل لي أنا، لذا أرجعوها إليَّ.
كيف يمكن وصف هذه القبعة؟ ولماذا؟ عندما بلغ رأسي أبعاده التي لا أقول عنها النهائية، لكن لحدها الأكبر، قال لي والدي، تعال يا أبني، سنشتري لك قبعتك، وكأنها كانت موجودة منذ الأزل، في مكان محدد. لقد ذهب مباشرة نحو القبعة. أما أنا، فلم يكن لي في الأمر لا ناقة ولا جمل. غالب ما تساءلت مع نفسي إن لم يكن غرض أبي من ذلك جعلي أشعر بالمذلة، وإذا ما كان يغار مني أنا الذي كان شاباً وجميلاً، نضراً، فيما كان هو شائخاً سلفاً، منفوخاً ولونه يميل إلى اللون البنفسجي. منذ ذلك اليوم لم يعد من المسموح به لي الخروج ورأسي مكشوفاً، وشعري الجوزي اللون يتطاير في الهواء. كنت في بعض الأحيانً، وفي شارع معزول، أقلع تلك القبعة وأظل ماسكاً عليها بين يدي، وأنا أرتجفُ. كان عليَّ تنظيفها في كل يوم، صباحاً ومساءً. أما الصبية من عمري والذين كنت مرغماً، من حين إلى آخر على اللعب معهم، فكانوا يضحكون عليَّ. غير أني قلت في نفسي لا شأن للقبعة بذلك، فهم كانوا يتخذون منها ذريعة، كأي ذريعة أخرى، لأنهم لم يكونوا أرقاء. كنت دائم الاندهاش من عدم لياقة معاصري، أنا الذي كانت روحه تتلوى، لا لشيء سوى البحث عن نفسها. لكن ربما كان سبب هذا هو اللياقة، أي ذلك النوع من اللياقة الذي يسخر من شخص احدب أمام أنفه الضخم. حين توفى والدي، كان بمقدوري التحرر منها، إذ ما عاد هناك ما يتعارض مع هذا، بيد أني لم أفعل أي شيء. لكن كيف يمكن وصفها؟ في المرة القادمة، في مرة ثانية.
نهضت ثانية وتحركت. لا أعرف كم كان لي من العمر في حينها. ما حدث لي لا علاقة له بتاريخ معين من وجودي. فذلك لم يكن لا مهداً ولا لحداً لشيء. أو بالأحرى، كان ذلك يشبه كل مهد ولحد آخر، لكي أضيع فيه. لكني لا أعتقد أني أبالغ إذا ما قلت بأني كنت في مقتبل العمر، أي في ما يسمى امتلاك المرء لكامل قواه، كما أعتقد. نعم، إذا كان الأمر يتعلق بامتلاك القوة، فأنا كنت امتلكها. عبرت الشارع وانعطفت نحو الدار التي قذفوني منها، أنا الذي لا ينعطف أبدا، إذا ما تقدم إلى الأمام. كم كانت تلك البيوت جميلة! بزهور"الجورانيوم" الموضوعة في نوافذها. لأعوام طويلة، كنت أنحني على تلك الزهور الذكية، آه الجورانيوم، لكني تمكنت في الأخير من فعل كل ما أشتهيه معها. كنت أعبد حقاً باب تلك الدار، بدرجها الصغير. لكن كيف يمكن وصفه؟ كانت داراً ضخمة، مطلية باللون الأخضر، وفي الصيف تجري تغطيتها بالدغل الأخضر والأبيض، مع ثقب صغير يتسع لخروج مطرقة صغيرة من الحديد المسبوك وفتحة توازي فتحة علب الرسائل تغطيها طبقة من النحاس لحمايتها من الغبار، من الحشرات والعصافير. هذا كل شيء. كان الباب محاطاً بعمودين من نفس اللون، يحمل أحداهما الجرس. أما ستائره، فكانت تنم عن ذوق رفيع. فحتى الدخان الذي كان يرتفع من أحدى أنابيبه، كتلك الموجودة في المطبخ، كان يبدو وكأنه يتمدد ويتلاشى في الهواء بكآبة أقل من تلك التي ترتفع من المطابخ المجاورة، وأكثر زرقةً منها. نَظرتُ إلى نافذتي القائمة في الطابق الثالث والأخير، المفتوحة بطريقة متهورة. كانت عملية التنظيف على أشدها. بعد بضعة ساعات سيغلقون النافدة من جديد، سينزلون الستائر ثانية ويشرعون بتعقيم الغرفة بمطهر قوي. فأنا أعرفهم جيداً. كنت على أهبة للموت في تلك الدار. رأيتُ، ضمن رؤية ما، الباب ينفتح وقدمي تخرج منه.
رفعتُ نظري دون إحراج، لأني كنت أعرف بأنهم لم يكونوا يراقبوني وهم خلف الستائر، كما كان يمكنهم القيام بذلك، إذا ما كانوا يرغبون حقاً القيام به. لكني كنت أعرفهم. لقد دخلوا جميعهم في قواقعهم وتفرغ كل منهم لعمله.
ومع ذلك لم أكن عملتُ أي شيء.
لم أكن أعرف جيداً المدينة، مسقط ولادتي وخطواتي الأولى، في الحياة، ومن بعدها في كل الأماكن الأخرى التي ضيعت عليَّ دربي. كنت قلما أخرج! من حين إلى آخر، كنت أذهب إلى النافذة، أسحب الستائر وأنظر إلى الخارج. لكن سرعان ما كنت أعود إلى عمق الغرفة، هناك حيث كان مكان السرير. كنت أشعر بالضيق، في عمق ذلك الجو، وضائعاً على عتبة ما لا حصر له من الآفاق المشوشة. لكني كنتُ ما أزال أعرف كيف أتحرك، في تلك المرحلة، حين كان الأمر يلزمني على القيام بذلك. لكني رفعت عيني أولاً نحو السماء التي تقدم منها إلينا تلك المعونات الشهيرة، حيث لا تكون الطرق مدموغة بالعلامات، ولا يحد فيها شيء البصر، من أي جهة ينظر منها المرء، اللهم إلا حدود النظر نفسه. ذلك ما يدفعني لرفع نظري، حين تسوء الأمور كلها، وإن كان هذا رتيباً، بيد أنه لم يكن بمقدوري فعل شيئاُ آخر غيره، فيما يتعلق بتلك السماء المُستلقيةِ في مكانها، وإن كانت غائمةً، مُثقلة بالرصاص، أو حتى مغطاة بالمطر، بركامات وعمى المدينة، الريف، والأرض برمتها. في شبابي كنت أفكر بأنه من الأفضل العيش في سهل، لهذا ذهبتُ إلى أرض "لينبورغ" البائرة. كان السهل في رأسي فيما ذهبت أنا إلى الأرض البائرة. كانت هناك أراضي بائرة أخرى أقرب منها، لكن ثمة صوت قال لي أن أرض "لينبورغ" البائرة هي التي تليق بحضرتك، فأنا لا أخاطب نفسي إلا بحضرتكِ. والحال، لم ترق لي أرض "لينبورغ" البائرة، على الإطلاق. عدت خائباً، ومع ذلك مُسترخياً. نعم، فأنا لم أكن في يوم ما خائباً، لا أدري لماذا، فيما كنت غالباً مُخيباً، في المراحل الأولى، دون الشعور بذلك، في ذات الوقت، أو في اللحظة التي تليها، راحة لا يمكن الاعتراض عليها.
أخذت دربي. أية مشية. تصلبٌ في الأعضاء السفلية، وكأن الطبيعة لم تشأ منحي ركباً، أي تلك الفتحة الخارقة ما بين الأقدام في محور المشي. لكن جذعي كان رخواً، وكأن ذلك بفضل ميكانيك تعويضي، برخاوة حقيبة مكتظة بعشوائية بالأرقام وتتمايل بافتتان وفقاً لهزات الحوض غير المتوقعة. حاولت غالباً تصحيح تلك العيوب بأن أجعل الوسط أكثر تصلباً، الركب أكثر لياً وسحب الأقدام الواحدة قبل الأخرى، لأنه كان لدي منها خمس أو ست، بيد أن هذا كان ينتهي دائماً بنفس الطريقة التي بدأ بها، أعني بفقدان التوازن، الذي يعقبه السقوط. على المرء المشي دون التفكير بما يقوم به، كما يفعل هذا وهو ينعس، أما أنا، عندما كنت أمشي دون التفكير بما أقوم به، كنت أمشي بالطريقة التي وصفتها للتو، وحينما بدأت بمراقبة نفسي قمت ببضعة خطوات جيدة سقطت من بعدها. قررت إذاً ترك نفسي تمشي على حالها. يعود ذلك القرار، بجزء منه على الأقل، من وجهة نطري، لميل بعينه لم تتمكن الأعوام القابلة من التأثير عليه، الأعوام التي تسبق تشوش الطبع، أو تعديله، أتحدث بطبيعة الحال عن المرحلة الممتدة ما بين التعثر الأول بالكرسي والصف الثالث، في نهاية دروس الإنسانيات. كنت مصاباً أذاً بتلك العادة الكريهة، التبول في لبساني الداخلية، أو التغوط فيها، وذلك ما كان يحدث لي غالباً بصورة منتظمة في بداية النهار، عند الساعة العاشرة أو العاشرة والنصف، في مواصلة يومي وكأن شيئاً لم يحدث. كانت مجرد فكرة تغيّيري، أو اللجوء إلى أمي التي لم تكن تتمنى أكثر من مساعدتي، فكرة لا تطاق، لا أعرف لماذا، وهكذا كنت أجرجر ما بين فخذي الصغيرين، أو المحصورة في مؤخرتي، النتيجة الحارقة، المحمصة لفيضاناتي. من هنا مصدر تلك الحركات الحذرة، المُتصلبة الواسعة للغاية لساقي والتمايل اليائس لجذعي، المكرس دون شك لإعطاء الانطباع بأنه لم تكن لدي من هموم، وكأني امتلأ بالغبطة والفرح، وربما لتوضيح شروحي المتعلقة بتصلبي السفلي الذي وضعته على عاتق الروماتيزم الموروث. كان ألقي الصبياني، إذا ما كان لدي شيئاً منه، قد تم استنفاذه، وأصبحت صعباً، بصورة مبكرة نوعاً ما، أميل إلى التخفي والوقفة الأفقية. يا لبؤس حلول الشباب تلك، التي لا تفسر أي شيء. لا ينبغي على المرء إذاً الشعور بالضيق. مجرد ممحكات مجانية، لكن الضباب ما زال مخيماً.
كان الجو رائقاً. تقدمتُ على الطريق، وأنا أحرص قدر استطاعتي على البقاء بالقرب من الرصيف. فأوسع الأرصفة لم يكن بالوسع الكاف بالنسبة لي، عندما أتحرك، كذلك كنت أرتعب من مضايقتي للمجهولين. أوقفني شرطيُ قائلاً الشارع للسيارات، والرصيف للمشاة. قد يقول المرء أنه من العهد القديم. صعدتُ إذاً على الرصيف، مُعتذراً تقريباً، ومن ثم حافظت على وقوفي ضمن تدافع لا يمكن وصفه، خلال عشرين خطوة، إلى اللحظة التي كان عليَّ ألقاء نفسي فيها على الأرض، لكي لا أسحق طفلاً. كان يحمل معه عدة، ما زلتُ أتذكر ذلك، معلقة بها أجراس صغيرة، وكأنه مهرة، أو حصان حراثة، لمَ لا. كنت سأسحقه بفرح، فأنا أرتعب من الأطفال، لكني كنت أخشى من الانتقام. الجميع يحمل صفة الأبوةِ، وذلك ما يَحرمُ المرء من أي أمل. إذ ينبغي تخصيص أماكن، في شوارع المشاة، لهذه الكائنات القذرة الصغيرة، الدهنية، بمصاصاتهم، ودراجاتهم الصغيرة، الرضع، الجدات، الأجداد، القصر، البالونات، باختصار كل سعادتهم الوسخة تلك. سقطت إذاً، وجرفتُ معي سيدة شائخة مُغطاة بقطع اللؤلؤ وشرائط الدانتيلا والتي كان يمكن أن يكون وزنها ألف غرام تقريباً. لم تتأخر صرخاتها عن أثارة التجمع. كنت آمل بأن يكون فكها قد أنكسر، فالعجائز يكسرن فكهن بسهولة، ولكن ليست بالسهولة الكافية، بالكافية. استغليتُ الهرج لكي أفلت، متلفظاً ما لا يمكن تميّيزه من الكلمات المتهورة، وكأني كنت أنا الضحية، ولقد كنتُ كذلك، غير أنه لم يكن بإمكاني تقديم برهاناً يؤكد هذا. إذ لا يمكن أبداً اتهام الأطفال، الرضع، فمهما عملوا تتم تبرئتهم من البداية. يمكنني أنا اتهامهم بمتعة، لكن لا أقول بأني سأفعل ذلك، كلا، فأنا لست بالشخص العنيف، لكني قد أُشجع الآخرين وأدفع لهم أجرهم للقيام به. بيد أني ما كدت قد شرعت في سماع ضجة الركلات التي تلقيتها وزوغاني عنها وإذا بشرطي آخر يوقفني، شرطي يشبه تماماً الأول، لحد تساءلت مع نفسي إن لم يكن هو نفسه. ذكرني هذا الشرطي بأن الرصيف هو للجميع، وكأنه كان من الواضح لديه بأني لا أنتمي لهذا الصنف. قلت له، دون أن أفكر ولو للحظة بهرقليطس، هل تريد مني النزول في الساقية؟ لتنزل حيثما تشاء، قال، لكن لا تأخذ كل المكان. صوبتُ نظري نحو شفته العليا، الذي كان ارتفاعها يقارب ثلاثة سنتمترات على الأقل، ونفثت أنفاسي من فوقها. قمت بذلك، كما أعتقد، بطريقة طبيعية للغاية، وكأني أشبه ذلك الذي يطلق تأوهاً، تحت الضغط القاسي للأحداث. لكنه لم يكترث أبداً بهذا. فهو لا بد وإن يكون معتاداً على عمليات التشريح، أو الدفن. إذا كنت لا تهتم بالتحرك كالجميع، قال، فما عليك سوى البقاء في دارك. كان ذلك هو بالدقة شعوري أنا نفسي. فلو كان قد خصني بدار، ما أنزعجتُ. في تلك اللحظة، مرت عربة دفن، كما يحدث هذا أحياناً. كانت تلك مناسبةً لصعود ونزول القبعات يرافقها انبهار آلاف الأصابع. شخصياً، إذا كان قد تم اختزالي إلى حد رسم إشارة الصليب، سأقوم بذلك عن طيب خاطر، كما ينبغي. وضع اليد على الأنف،من فوق الصرة، على الحلمة اليسرى والحلمة اليمنى. أما هم، فكانوا يولدون لدى المرء، بتحريكم لأصابعهم بسرعة وعدم دقة، انطباعاً بأنهم كانوا يرسمون صليباً على شكل كرة، وبلا أقل تحفظ، واضعين حنكهم تحت ركبهم، وأذرعهم كيفما أتفق. توقف أكثرهم تحمساً وانتظر سماع الدندنات. كان الشرطي قد تجمد في مكانه، عيناه مغلقتين، ويده داخل جيب سترته. لمحتُ، عبر نوافذ عربة التشيّيع، بعض الأفراد وهم يتحادثون فيما بينهم بحماس، ربما كانوا يقصدون من ورائها التذكير ببعض من مشاهد حياة المرحوم، أو المرحومة. بدا لي سماع من يقول بأن سرج الجنازة لم يكن هو نفسه من الجانبين، غير أني لم أتمكن يوماً من معرفة أين يكمن الفارق. كانت الخيول تضرط وتلوث الأرض وكأنها ذاهبة إلى معرض. لم أر أي أحد يَخُرْ على ركبتيه.
لكن ذلك كان ينتهي عندنا بسرعة، فمها عجل المرء خطواته ستسبقه العربة التي تنقل المشيعين، وسوف يتفرق الناس من حوله، ويظل وحده. لذا توقفت، للمرة الثالثة، وأخذت من تلقاء نفسي عربة. إذ لا بد لتلك العربات، التي مرت أمامي والتي كان يتحدث في داخلها المشيعين بمثل ذلك التحمس، قد أثرت عليَّ. كانت واحدة من تلك العلب السوداء، التي تترنح من فوق نوابضها، نوافذها صغيرة ويتقرفص المرء في زاوية من زواياها، وذلك ما يماثل مشهد المساجين. شعرتً بشفقتي تلامس السقف. بعد قليل أحنَيتُ نفسي قليلاً إلى الأمام وغلقتُ النوافذ. ثم عدت إلى مكاني وظهري باتجاه السير. كدت على وشك النعاس وإذا بصوت يجعلني أقفز من مكاني، كان صوت الحوذي. فهو قد فتح الكوة الصغيرة، بعد يأسه دون شك من جعل صوته مسموعاً من قبلي عبر النافذة. لم أر منه سوى شاربيه. أين؟ قال. كان قد نزل من مقعده عمداً لكي يخبرني بذلك. فيما كنت أظن أنا بأني أصبحت بعيداً! فكرت، باحثاً في ذاكرتي عن اسم شارع، أو موقع أحد النصب. هل أن عربتك للبيع؟ قلت له. ثم أضفت بدون الحصان. ما الذي سأعمله بالحصان؟ لكن ما الذي أعمله بالعربة؟ هل أستطيع على الأقل التمدد فيها؟ ومنْ الذي سيجلب لي ما أكله؟ إلى حديقة الحيوانات، قلت. إذ من النادر أن لا تكون ثمة من حديقة حيوانات في عواصم المدن. بعد ذلك، قلت له لا تسرع. ضحك. فالإيحاء بحديقة الحيوانات كان دون شك قد سلاه. اللهم إلا إذا كان مشهد أن يكون بلا عربة هو ما فعل ذلك. أو ببساطة أنا، شخصي الذي كان حضوره في العربة هو ما جعله يتحول، إلى حد يمكن فيه أن يكون الحوذي قد تساءل مع نفسه، وهو يرى رأسي يحاذي السقف وقدمي باتجاه النافذة، إذا ما كنت بالفعل هي عربته، أو أنها عربة ما حقاً. وبسرعة ألقى نظرة على الحصان، لكي يطمأن نفسه ثانية. لكن هل يعرف المرء لماذا يضحك؟ على أي حال، كانت ضحكته مقتضبة، وهذا ما بدا وكأنه تبرئة لي. أغلق البوابة الصغيرة من جديد، وصعد إلى مقعده. بعد فترة قصيرة من ذلك، ترنح الحصان.
لكن نعم، كان ما يزال لدي، في ذلك الوقت، قليلاً من المال. المبلغ الصغير الذي تركه لي والدي، كهدية، غير مشروطة، بعد موته، أتساءل إذا لم يكونوا قد سرقوه مني. وبالرغم من ذلك، لم تتوقف حياتي، ويمكنني القول حتى بأنها استمرت بمثل ما كنتُ أريدها، إلى حد ما. العيب الكبير لهذه الحالة، التي يمكن تحديدها باعتبارها عدم القدرة على الشراء، هي أنها ترغم المرء على التحرك قليلاً. إذ من النادر، مثلاً، حينما لا تكون لديه حقاً فلوس، أن يحصل على ما يأكله، من حين إلى آخر، وهو قابع في جحره. لهذا فهو مرغم على الخروج منه والتحرك قليلاً، مرة واحدة في الأسبوع على الأقل. كذلك لا يبقى لديه بالضرورة أي عنوان، تلك هي الحالة. وكنتيجة لهذا سمعت، مع شيء من التأخر، بأنهم كانوا يبحثون عني، لأمر يخصني. لا أعرف عن أي طريق. فأنا لا أقرأ الجرائد ولا أتذكر أيضاً بأني كنت قد ثرثرتُ مع أحدهم، خلال تلك الأعوام، ما عدا مرتين أو ثلاثة ربما، من حول قضية تتعلق بالغذاء. يبدو أني لم يكن مهتماً بالأمر، بطريقة وأخرى، وإلا ما كنت قَدَمتُ نفسي للسيد "نيدر"، كم عجيب بقاء بعض الأسماء حاضرة في الذاكرة، هو الذي لم يستقبلني يوماً. كان قد تأكد من هويتي. وذلك ما أستغرق لحظة طويلة. أظهرت له الحروف الأولية من اسمي المنقوشة داخل قبعتي، غير أنها لم تثبت أي شيء، بل ضاعفت الاحتمالات. لتوقع، قال. كان يلعب بمسطرة اسطوانية يمكنها أن تذبح ثور. لتحسب، قال. كانت هناك شابة، قد تكون للبيع، حاضرة أثناء النقاش، وقد تكون شاهدة دون شك. دسست الرزمة في جيبي. أنت على خطأ، قال. كنت أتخيل بأنه كان عليه أن يطلب مني أن أحسب قبل أن يجعلني أوقع، كان ذلك سيكون صحيحاً أكثر. أين يمكنني الالتحاق بك، قال، عندما يلزم الأمر؟ تحت السلم، كنت أفكر بشيء ما. بعد ذلك بقليل، صعدت ثانية لأسأله من أين جاء ذلك المبلغ، مضيفاً بأنه يحق لي معرفة هذا. قال لي اسم امرأة، نسيتها. ربما كانت أجلستني على ركبتيها عندما كنت ما أزال أحمل الحضانات وقد أكون داعبتها. ذلك يكفي في بعض الأحيان. قلت بالدقة عندما كنت في الحضانات، لأنه بعد ذلك سيكون الوقت متأخراً، بالنسبة للمداعبات. كان بفضل ذلك المبلغ إذاً بقاء القليل من النقود معي. قليل جداً. فإذا ما تم تقسيمه على مراحل حياتي القادمة، فلن يظل منه شيئاً، اللهم إلا إذا كانت توقعاتي مبالغاً بشأنها. ضربت بحافة شفقتي ظهر الحوذي، إذا ما كانت حساباتي صحيحة. صَعَدتْ غيمة من الغبار من تلك الشفقة. أخرجت حجرة كانت موجودة في جيبي وصرت أضرب بها إلا أن توقفت العربة. لاحظت بأنه لم تصدر من تلك العربة حركة تباطأ، كتلك التي نلاحظها في العربات التي تريد التوقف. كلا، لقد توقفت في الحال. انتظرت. تَذَبذتْ العربة. لا بد وإن الحوذي قد سمع ذلك، من فوق مقعده. رأيت الحصان وكأني أراه بعيني المجردة. لم يكن قد اتخذ أية حركة تدل على ركوعه كما يحدث في حالات التوقف، ظل يقظاً، وأذناه مُنتصبتان. نظرتُ عبر النافذة، تحرك الحوذي من جديد. ضربتُ ثانية على الحاجز الفاصل بيننا، إلى أن توقفت العربة مرة أخرى. نزل الحوذي من مقعده وهو يرعد ويزبد. أخفضتُ الستارة لكي لا ينتبه ويفتح البوابة الصغيرة. بسرعة، بسرعة. كان أكثر احمراراً، أي بنفسجياً. كان له لون أو ريح السباق. قلت له بأني كنت قد أجرته طيلة النهار. رد عليَّ بأنه لديه عملية دفن في الساعة الثالثة. آه الأموات. قلت له ما عدت راغباً في الذهاب إلى حديقة الحيوانات. يجب أن لا نذهب إلى حديقة الحيوانات، قلت. أجاب بأنه غير معني أين علينا الذهاب، شريطة أن لا يكون ذلك بعيداً تماماً، بسبب بهيمته. ومع ذلك نسمع من يحدثنا عن الطريقة المتميزة التي يتحدث بها البدائيون. سألته إذا ما كان يعرف مطعماً. ثم أضفت، سنأكل سوية. فأنا أحب أن أكون مع أحد متآلف مع المكان، في تلك المناطق. كان هناك مائدة طويلة تحيطها أريكتين من ذات الطول بالضبط. من حول المائدة، حدثني عن حياته، عن هذه الحياة المرعبة التي هي حياته، بسبب من طبعه بشكل خاص. سألني إذا ما كنت أدرك ما معنى ذلك، أي أن يبقى المرء طيلة الوقت في الخارج. سمعت بأن هناك العديد من سائقي العربات الذين يظلون طيلة النهار في دفء عرباتهم وذلك ببقائهم واقفين، ينتظرون أن يأتي الزبون ليهزهم. هذا ما كان يمكن القيام به في السابق، أما اليوم فلا بد من مناهج أخرى، إذا كان المرء يود الحصول عليها، قبل ساعاته الأخيرة. وصفت له موقفي، ما فقدته وما أبحث عنه. لقد بذلنا جهدنا، كلانا، من أجل الفهم، والتفسير. فهمَ هو بأني فقدت غرفتي وبأنه كان لا بد لي من العثور على واحدة أخرى غيرها، لكن الباقي كله قد فلت من ذهنه. لقد وضع في رأسه فكرة لا يمكن اقتلاعها منه بأني كنت أبحث عن غرفة مفروشة. أخرج من جيبه جريدة مسائية من الأمس، أو ما قبله، ثم أخذ ينقب في إعلاناتها، بعدها راح يضعُ خطوطاً بقلم صغير من الرصاص تحت خمسة أو ستة منها، نفس قلم الرصاص الذي سيرتعش تحت أصابع الفائزين القادمين. لقد أشرَ بما لا يقبل الشك على نفس تلك العناوين التي كان سيؤشر عليها لو كان في مكاني، أو ربما على تلك التي تحيل على نفس المحلة، بسبب بهيمته. كنت سأربكه لو قلت له، فيما يتعلق بالغرف المفروشة، لن أقبل أن تحتوي على شيء آخر غير السرير، وبالتالي ينبغي سحب كل ما عداه، بما في ذلك الطاولة الليلية الصغيرة، قبل أن أتنازل وأضع قدمي فيها. في الساعة الثالثة أيقظنا الحصان وشرعنا بالانطلاق. أقترحَ عليَّ الحوذي الجلوس على المقعد بجانبه، لكني بعد لحظة كنت أحلم بداخل العربة ومن ثم أخذت مكاني هناك. زرنا جميع العناوين المشار عليها، الواحد بعد الآخر، وفقاً للمنهج كما آمل. كان ذلك اليوم الشتوي القصير يشارف على نهايته. يبدو لي أحياناً بأن الأيام الشتوية كانت هي الأيام الوحيدة التي عرفتها في حياتي، لاسيما في هذه اللحظة الفاتنة، التي تسبق الطمس الليلي. العنوانين التي كان قد أشار عليها، أو بالأحرى وضع من فوقها علامة الصليب، كما يفعل أبناء الشعب، شطبها بوضع خط عارض عليها، وذلك بالقدر الذي كان يتبين له من أنها لم تكن صالحةً. أظهر لي، فيما بعد، الجريدة وهو ينصحني بالاحتفاظ بها، لكي أكون متأكداً من عدم البحث من جديد في الأماكن التي بحثت عبثاً فيها من قبل. كنت أسمعه وهو يغني، وحده تماماً من فوق مقعده العالي، بالرغم من النوافذ المغلقة، صرير العربة وضج
ة
المرور. لقد فضل البقاء معي، بدلاً من عملية الدفن، كان ذلك قد حدثَ بوقت ربما
أستغرق أبدية بكاملها. كان يغني. أنها في البلاد البعيدة حيث ينام بطلها الشاب،
تلك هي الكلمات الوحيدة التي أذكرها. في كل محطة، كان ينزل ويعينني أيضاً على
النزول من مقعدي. كنتُ أدق على جرس الباب الذي يشير عليه هو، وفي بعض الأحيان كنتُ
أتوارى داخل الدار. كان إحساسي بدار تحيط بيَّ قد بدا لي طريفاً للغاية، ما زلت
أتذكر ذلك، بعد هذه الفترة الطويلة. كان ينتظرني على الرصيف، ويساعدني في الصعود
داخل العربة. بدأت بالتضايق من ذلك الحوذي. صعدت على مقعده وانطلقنا ثانية. في
لحظة محددة، حدث الآتي. توقف. هززت نعاسي وتهيأت للنزول. لكنه لم يأت لكي يفتح لي
البوابة الصغيرة ويمد لي يده، لحد كنت فيه مرغماً على النزول وحدي. أوقد الفوانيس.
أنا أحب اللمبات النفطية، بالرغم من حقيقة أنها، مع الشموع، وإذا ما استثنينا
النجوم، كانت الأنوار الأولى التي عرفتها. سألته إذا ما كان بمقدوري إشعال الفانوس
الثاني، ما دام أنه هو نفسه من أوقد الفانوس الأول. أعطاني علبة كبريته، فتحت
الزجاجة الصغيرة المنفوخة والموضوعة من فوق مفصلة، شعلتها وأغلقتها ثانية على
الفور، لكي تحترق الفتيلة بهدوء ووضوح، دافئة في بيتها الصغير، بعيدة عن الرياح.
تولد عندي الفرح. نحن لا نرى أي شي، في ضوء هذه الفوانيس، اللهم إلا سطحي الحصان وبغموض،
فيما كان يرها الآخرون من بعيد، نقطتين صفراويتين بلا شائبة تطوفان ببطء. عندما
كان مقرن الحصان يستدير، كان بمقدور المرء رؤية عينه، الحمراء أو الخضراء وفقاً
للحالة، على شكل معين محدب أو حاد، وكأنه داخل واجهة زجاجية.
بعد تحققنا من العنوان الأخير أقترح عليَّ الحوذي تقديم نفسي إلى فندق يعود إلى أحد معارفه، حيث سأكون هناك على ما يرام. وذلك ما كان له معناه، حوذي، فندق، كل هذا محتمل. فمادام هو الذي أمرني بذلك، فسوف لن يعوزني شيئاً. ستجد فيه كل أشكال الراحة، قال، وهو يغمز بعينه. أُحدّدُ موقع هذا الحوار على الرصيف، من الدار التي خرجت منها للتو. أتذكر، تحت ضوء الفانوس، الخاصرة المقعرة والرطبة للحصان ومن فوق قبضة البوابة الصغيرة يد الحوذي، المغطاة تحت قفازه الصوفي. مرَرتُ رأسي بكامله عبر سقف العربة. اقترحتُ عليه تناول قدحاً من المشروب معي. طيلة ذلك اليوم لم يأكل أو يشرب الحصان أي شيء. أشرتُ بذلك على الحوذي الذي رد عليَّ بأنه حصانه لا يتناول غذاءه إلا عند رجوعه إلى الإسطبل. فإذا ما تناول أي شيء، حتى وإن كان تفاحةً أو قطعة سكر، أثناء الشغل، فقد يسبب له ذلك وجعاً في البطن والإسهال الذي قد يمنعه من التقدم إلى الأمام، وربما قتله أيضاً. وهكذا كان مرغماً على ربط فكيه، بواسطة فاصلة، إذا ما كان سيغيب عن ناظريه، لهذا السبب أو ذاك، وخشية أن يؤذي المارة. بعد تناوله لعدة كؤوس، ألتمس مني الحوذي تشريفهما، هو وزوجته، بقضاء الليلة في منزلهما. لم يكن بعيداً. عندما أفكر بذلك الآن، مع ما يقدمه البعد عن الحدث من فائدة معروفة، أعتقد بأن الحوذي لم يكن منشغلاً بالتفكير، في ذلك اليوم، سوى بمنزله. كانا يقطنان تحت مخزن، في عمق باحة. أي موقف جميل، كان عليَّ القبول به. بعد أن قدمني لزوجته، وهي لها مؤخرة ضخمة بشكل خارق للعادة، غادرنا. لم تكن تشعر بالراحة، وهذا ما كان يمكن ملاحظته، من بقائها وحدها معي. كنت أفهمها، فحالة كهذه لا تسبب لي ضيقاً. إذ ليس ثمة من سبب في أن يستمر ذلك أو يتوقف. لكن هذا قد توقف. قلت سأذهب إلى المخزن وأنام هناك. أحتج الحوذي. أصررتُ أنا. لفت انتباه زوجته نحو دملة كانت موجودة في ذروة رأسي، لأني رفعت قبعتي بحكم اللياقة. يجب عليك التخلص من هذا، قالت. ذكر لي الحوذي اسم طبيب يثمنه ويكن له أكبر تقدير، لأنه كان قد خلصه من تيبس تحت أبطه. إذا كان يريد النوم في المخزن، قالت المرأة، فلينم في المخزن. أخذ الحوذي اللمبة الموضوعة فوق الطاولة وتقدمني إلى السلم المؤدي إلى المخزن، كان بالأحرى درجاً، ومن ثم فقد ترك زوجته في الظلمة. مدَ على الأرض، في زاوية ما، ومن فوق القش، غطاء الحصان، وترك لي علبة كبريت، لكي أتمكن من الرؤية في الليل، إذا ما اقتضت الحاجة. لا أتذكر ما الذي كان يعمله الحصان أثناء ذلك الوقت. حينما تمددتُ في الظلمة، سمعت ضجة صوته وهو يشرب، شيء خاص تماماً، ثم سمعت ركض الفئران من تحتي والصوت المخنوق للحوذي وزوجته وهما ينتقداني. كنت أمسك على علبة الكبريت بيدي، علبة كبريت سويدية ضخمة. نهضت في الليل وأوقدت واحداً من عيدانها. أتاحت لي شعلتها الضعيفة التعرف على العربة. راودتني الرغبة، ثم تركتني، في أن أضع النار في المخزن. عثرتُ على العربة في الظلمة، فتحت البوابة الصغيرة، خَرَجتْ منها فئران، وصعدت أنا في داخلها. لاحظتُ مباشرة، بعد جلوسي في العربة، بأنها لم تكن على ما يرام، كما ينبغي، إذ كانت مقابض الدفة قد وقعت على الأرض. وهذا ما هو أفضل، إذ وفرت لي التمدد بشكل مقلوب، واضعاً قدمي أعلى من رأسي، من فوق المقعد الثاني. لمرات عديدة شعرت أثناء الليل بأن الحصان كان ينظر لي عبر النافذة، كذلك شعرت بنفخ منخريه. ففي وضعيته الحرة تلك، لا بد وأنه قد وجدَ حضوري في العربة شيئاً غريباً. كنت أشعر بالبرد، لأني نسيت أخذ الغطاء معي، لكن ليس لحد الذهاب ثانية للبحث عنه. من نافذة العربة كنت أرى نافذة المخزن، أفضل وأفضل. كان الظلام أقل كثافة في المخزن، إذ عثرت فيه على المعلف، طقم الحصان وعدته معلقة، وماذا غيرها، عثرت على أكثر من دلو وفرش. ذهبتُ إلى الباب لكني لم أتمكن من فتحه. تابعني الحصان بنظراته. إلا تنام أبداً الخيول، إذاً؟ فكرت بأن الحوذي كان لا بد وقد ربطه، أمام المعلف مثلاً. كنت مرغماً، إذاً، على الخروج من خلال النافذة. لم يكن ذلك سهلاً. لكن ما هو الشيء السهل؟ مرَرتُ رأسي في الأول، فيما كانت يديّ براحتيهما مطروحتين من فوق أرضية الباحة وفخذيّ ما زال يتلويان وقد أعاقتهما حبال التعليق. ما زلت أتذكر كمية الدغل الذي كنت أسحب نفسي ضده، بيدي الاثنتين، لكي أتخلص. كان ينبغي عليَّ نزع معطفي ورميه عبر النافذة، غير أن هذا يتطلب التفكير به في حينها. بالكاد كنت قد خرجت من الباحة حتى شرعتُ بالتفكير بشيء ما. التعب. دسستُ ورقة في علبة الكبريت، دخلتُ ثانية إلى الباحة ووضعت العلبة على حافة النافذة التي خرجت منها للتو. كان الحصان واقفاً عند النافذة. لكن ما أن قمت ببضعة خطوات في الشارع وإذا بي وقد رجعتُ إلى الباحة وأخذتُ ورقتي. غير أني تركت علبة الكبريت، فهي ليست ملكي. كان الحصان يقف دائماً عند النافذة. كم ضايقني ذلك الحصان. كان الفجر قد بزغ بالكاد. لم أكن أعرف أين كنت. أخذت اتجاه الشمس، لكي أكون في نورها مبكراً. كنت أحبذ أن يكون أفقها بحرياً، أو صحراوياً. فحين أكون في الخارج، في الصباح، كنتُ أذهب لملاقاة الشمس، وفي المساء، عندما أكون في الخارج، أظل هناك حتى الوصول إلى الأموات. لا أعرف لماذا سردت هذه القصة. إذ كان بمقدوري روي واحدة أخرى غيرها. وقد يكون بمستطاعي في المرة القادمة سرد واحدة أخرى غيرها. أيتها الأرواح الحية، ستجدين بأنها متشابهةً.
بعد تحققنا من العنوان الأخير أقترح عليَّ الحوذي تقديم نفسي إلى فندق يعود إلى أحد معارفه، حيث سأكون هناك على ما يرام. وذلك ما كان له معناه، حوذي، فندق، كل هذا محتمل. فمادام هو الذي أمرني بذلك، فسوف لن يعوزني شيئاً. ستجد فيه كل أشكال الراحة، قال، وهو يغمز بعينه. أُحدّدُ موقع هذا الحوار على الرصيف، من الدار التي خرجت منها للتو. أتذكر، تحت ضوء الفانوس، الخاصرة المقعرة والرطبة للحصان ومن فوق قبضة البوابة الصغيرة يد الحوذي، المغطاة تحت قفازه الصوفي. مرَرتُ رأسي بكامله عبر سقف العربة. اقترحتُ عليه تناول قدحاً من المشروب معي. طيلة ذلك اليوم لم يأكل أو يشرب الحصان أي شيء. أشرتُ بذلك على الحوذي الذي رد عليَّ بأنه حصانه لا يتناول غذاءه إلا عند رجوعه إلى الإسطبل. فإذا ما تناول أي شيء، حتى وإن كان تفاحةً أو قطعة سكر، أثناء الشغل، فقد يسبب له ذلك وجعاً في البطن والإسهال الذي قد يمنعه من التقدم إلى الأمام، وربما قتله أيضاً. وهكذا كان مرغماً على ربط فكيه، بواسطة فاصلة، إذا ما كان سيغيب عن ناظريه، لهذا السبب أو ذاك، وخشية أن يؤذي المارة. بعد تناوله لعدة كؤوس، ألتمس مني الحوذي تشريفهما، هو وزوجته، بقضاء الليلة في منزلهما. لم يكن بعيداً. عندما أفكر بذلك الآن، مع ما يقدمه البعد عن الحدث من فائدة معروفة، أعتقد بأن الحوذي لم يكن منشغلاً بالتفكير، في ذلك اليوم، سوى بمنزله. كانا يقطنان تحت مخزن، في عمق باحة. أي موقف جميل، كان عليَّ القبول به. بعد أن قدمني لزوجته، وهي لها مؤخرة ضخمة بشكل خارق للعادة، غادرنا. لم تكن تشعر بالراحة، وهذا ما كان يمكن ملاحظته، من بقائها وحدها معي. كنت أفهمها، فحالة كهذه لا تسبب لي ضيقاً. إذ ليس ثمة من سبب في أن يستمر ذلك أو يتوقف. لكن هذا قد توقف. قلت سأذهب إلى المخزن وأنام هناك. أحتج الحوذي. أصررتُ أنا. لفت انتباه زوجته نحو دملة كانت موجودة في ذروة رأسي، لأني رفعت قبعتي بحكم اللياقة. يجب عليك التخلص من هذا، قالت. ذكر لي الحوذي اسم طبيب يثمنه ويكن له أكبر تقدير، لأنه كان قد خلصه من تيبس تحت أبطه. إذا كان يريد النوم في المخزن، قالت المرأة، فلينم في المخزن. أخذ الحوذي اللمبة الموضوعة فوق الطاولة وتقدمني إلى السلم المؤدي إلى المخزن، كان بالأحرى درجاً، ومن ثم فقد ترك زوجته في الظلمة. مدَ على الأرض، في زاوية ما، ومن فوق القش، غطاء الحصان، وترك لي علبة كبريت، لكي أتمكن من الرؤية في الليل، إذا ما اقتضت الحاجة. لا أتذكر ما الذي كان يعمله الحصان أثناء ذلك الوقت. حينما تمددتُ في الظلمة، سمعت ضجة صوته وهو يشرب، شيء خاص تماماً، ثم سمعت ركض الفئران من تحتي والصوت المخنوق للحوذي وزوجته وهما ينتقداني. كنت أمسك على علبة الكبريت بيدي، علبة كبريت سويدية ضخمة. نهضت في الليل وأوقدت واحداً من عيدانها. أتاحت لي شعلتها الضعيفة التعرف على العربة. راودتني الرغبة، ثم تركتني، في أن أضع النار في المخزن. عثرتُ على العربة في الظلمة، فتحت البوابة الصغيرة، خَرَجتْ منها فئران، وصعدت أنا في داخلها. لاحظتُ مباشرة، بعد جلوسي في العربة، بأنها لم تكن على ما يرام، كما ينبغي، إذ كانت مقابض الدفة قد وقعت على الأرض. وهذا ما هو أفضل، إذ وفرت لي التمدد بشكل مقلوب، واضعاً قدمي أعلى من رأسي، من فوق المقعد الثاني. لمرات عديدة شعرت أثناء الليل بأن الحصان كان ينظر لي عبر النافذة، كذلك شعرت بنفخ منخريه. ففي وضعيته الحرة تلك، لا بد وأنه قد وجدَ حضوري في العربة شيئاً غريباً. كنت أشعر بالبرد، لأني نسيت أخذ الغطاء معي، لكن ليس لحد الذهاب ثانية للبحث عنه. من نافذة العربة كنت أرى نافذة المخزن، أفضل وأفضل. كان الظلام أقل كثافة في المخزن، إذ عثرت فيه على المعلف، طقم الحصان وعدته معلقة، وماذا غيرها، عثرت على أكثر من دلو وفرش. ذهبتُ إلى الباب لكني لم أتمكن من فتحه. تابعني الحصان بنظراته. إلا تنام أبداً الخيول، إذاً؟ فكرت بأن الحوذي كان لا بد وقد ربطه، أمام المعلف مثلاً. كنت مرغماً، إذاً، على الخروج من خلال النافذة. لم يكن ذلك سهلاً. لكن ما هو الشيء السهل؟ مرَرتُ رأسي في الأول، فيما كانت يديّ براحتيهما مطروحتين من فوق أرضية الباحة وفخذيّ ما زال يتلويان وقد أعاقتهما حبال التعليق. ما زلت أتذكر كمية الدغل الذي كنت أسحب نفسي ضده، بيدي الاثنتين، لكي أتخلص. كان ينبغي عليَّ نزع معطفي ورميه عبر النافذة، غير أن هذا يتطلب التفكير به في حينها. بالكاد كنت قد خرجت من الباحة حتى شرعتُ بالتفكير بشيء ما. التعب. دسستُ ورقة في علبة الكبريت، دخلتُ ثانية إلى الباحة ووضعت العلبة على حافة النافذة التي خرجت منها للتو. كان الحصان واقفاً عند النافذة. لكن ما أن قمت ببضعة خطوات في الشارع وإذا بي وقد رجعتُ إلى الباحة وأخذتُ ورقتي. غير أني تركت علبة الكبريت، فهي ليست ملكي. كان الحصان يقف دائماً عند النافذة. كم ضايقني ذلك الحصان. كان الفجر قد بزغ بالكاد. لم أكن أعرف أين كنت. أخذت اتجاه الشمس، لكي أكون في نورها مبكراً. كنت أحبذ أن يكون أفقها بحرياً، أو صحراوياً. فحين أكون في الخارج، في الصباح، كنتُ أذهب لملاقاة الشمس، وفي المساء، عندما أكون في الخارج، أظل هناك حتى الوصول إلى الأموات. لا أعرف لماذا سردت هذه القصة. إذ كان بمقدوري روي واحدة أخرى غيرها. وقد يكون بمستطاعي في المرة القادمة سرد واحدة أخرى غيرها. أيتها الأرواح الحية، ستجدين بأنها متشابهةً.
*هذه الرواية القصيرة هي الأولى من كتاب لصموئيل بيكيت يحمل اسم "روايات ونصوص من أجل لا شيء"